الإعلام عبر التعاون وفي التحول
Brunnenstraße 9, 10119 Berlin, Germany
mict-international.org

مشروعاتنا الأخرى
afghanistan-today.org
niqash.org
correspondents.org
English

تحليل | حينما فجرت الخريطة مفاوضات الخرطوم وجوبا

ماهر أبو جوخ
الخرطوم - بدأت المفاوضات بين السودان وجنوب السودان جولتها الجديدة في التاسع عشر من يونيو الجاري. فكيف تؤثر معطيات الجولة السابقة على هذه الجولة الجديدة؟
25.04.2024
الخريطة المقدمة من طرف جنوب السودان أثناء جولة المفاوضات الماضية.
الخريطة المقدمة من طرف جنوب السودان أثناء جولة المفاوضات الماضية.

تنفست الوساطة الافريقية الرفيعة بقيادة الرئيس الجنوب افريقي السابق ثابو امبيكي الصعداء بتجاوز اول جولة للمفاوضات تعقد بين وفدي حكومتي السودان وجنوب السودان الشهر الجاري للمعضلة الاساسية التي اثارها الوفدين قبل بدء المباحثات والمتمثلة في ترتيب الاجندة.

فالخرطوم تمسكت بضرورة ابتدار المباحثات بالقضايا الامنية باعتبار أن الاتفاق عليها هو الاساس للاتفاق على بقية القضايا العالقة. أما جوبا فكان لديها وجهة نظر اخرى استندت على ضرورة بحث القضايا الخلافية كما وردت في قرار مجلس الامن رقم 2046 والمتمثلة في قضايا (الحدود، اوضاع مواطني الدولتين، النفط وأبيي).

وفي خاتمة المطاف تم حل هذه المعضلة بابتدار المباحثات بمناقشة القضايا الامنية.

لكن تلك الغبطة من انتظام الطرفين في المباحثات المباشرة بعد تدهور مريع في العلاقات بينهما بشكل غير مسبوق وصل لمرحلة انزلاقهما في اتون الحرب المباشرة بينهما في منطقة هجليج لم تدم طويلاً، إذ تحولت اجواء التفاؤل لحالة عكسية عقب ارتفاع الاحتجاجات والاعتراضات من قبل ممثلي الوفد الحكومي السوداني، برئاسة وزير الدفاع الفريق اول ركن مهندس عبد الرحيم محمد حسين، على خريطة قدمها نظرائهم بوفد الجنوب احتوت على مناطق تعتبرها الخرطوم واقعة ضمن حدودها الجغرافية والتي جعلتها جوبا ضمن حدود الجنوب.

الخلاف على العشرة

طيلة الفترة الماضية فإن السودان اعترف بوجود خلافات بينه وبين جاره الجنوبي في ما يتعلق بالحدود حول أربعة مناطق وهي (كاكا، حفرة النحاس، المقنيص والميل 14).


عباس محمد ابراهيم.  © عباس محمد ابراهيم

لكنه اتهم جاره الجنوبي بافشال جولة المفاوضات الحالية بعد تقديمه لخريطة تبعت تلك المناطق الاربعة بجانب ست مناطق جديدة لحدود الدولة الجنوبية وهو ما جعل النقاش ينحرف عن القضية الاساسية المتمثلة في الترتيبات الامنية لجدل حول أحقية كل طرف في تبعية تلك المناطق.

اما المناطق الستة الجديدة التي تمت اضافتها فتقع بولايات دارفور وجنوب كردفان والنيل الأبيض وسنار وابرز تلك المناطق هي هجليج، الميرم والخرصانة.

وطبقاً لتلك الخريطة فإن حدود الجنوب شملت بحر العرب الذي يعد اهم المناطق الرعوية بالمنطقة للقبائل المتواجدة هناك.

ويشير موفد صحيفة (الصحافة) عباس محمد ابراهيم الذي غطى جولة المباحثات الأخيرة بأديس ابابا بين الخرطوم وجوبا إلى أن مساحة المنطقة التي بات يتنازع عليها البلدان عقب اضافة تلك المناطق الستة يقدر بحوالي 600 الف كيلومتر مربع.

الألوان الثلاثة

يشرح ابراهيم تفاصيل الخريطة التي قدمها مفاوضي الجنوب والتي اثارت غضب نظرائهم بالجانب السوداني مبيناً انها تضمنت حدود الدولتين واستخدم فيها ثلاثة الوان، حيث عبر الخط باللونيين البني والاصفر لمسافة العشرة اميال حدود كل دولة: فالبني لجنوب السودان والاصفر للسودان. اما المنطقة بالخط الاخضر فكانت هي المنطقة العازلة التي اقترحت جوبا اقامتها بين البلدين خلال مباحثات الترتيبات الامنية وهو الامر الذي رفضته الخرطوم.

وينوه ابراهيم لوجود خلافات بين الطرفين في ما يتصل بالقضايا المتعلقة بالترتيبات الامنية مستدلاً هنا بالجدل الذي دار بينهما حول تفسيير المقصود بوقف العدائيات.

فالخرطوم من ناحيتها تعتبر أن الاوضاع في ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق متضمنيين في هذا البند لأن القوات التي تقاتل الجيش السوداني هي وحدات تابعة للجيش الشعبي، فيما ترى جوبا أن ما يحدث في هاتين الولايتين لا علاقة لها بجنوب السودان بعد رفعه ليده وفضه لعلاقاته السياسية والتنظيمية والعسكرية مع منسوبيه بالسودان عقب استفتاء واستقلال الجنوب.

كما اعتبرت جوبا أن حل هذا القضية يستوجب اتخاذ الخرطوم قراراً بالتحاور والتفاوض مع تلك المجموعات.

وهنا يشيير الصحفي والمحلل السوداني المقيم بلندن عمار عوض لملاحظة اساسية برزت في الجولة الاخيرة للمفاوضات، وهي أن مفتاح حل القضايا الأمنية بين البلدين يتمحور حول النزاع الدائر في ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق، مبيناً أن النقاش حول هذه النقطة اخذ الحيز الاكبر من الجولة، واردف: "أما الجوانب المتعلقة بالنقاش حول المناطق العازلة وما تبعها من ضجة متصلة بالمناطق الحدودية فقد تم في اليومين الاخيرين فقط".

أبيي هي المدخل

إلا أن الصحفي عباس محمد ابراهيم يعتبر أن التوصل لاتفاق حول منطقة أبيي هو المدخل الرئيسي لمعالجة معظم القضايا العالقة بين البلدين، مستدلاً بربط الجنوب أي اتفاق بها على رأسها قضية النفط التي تم الاتفاق ضمنياً بين البلدين على رسوم رمزية لعبوره وتصديره عبر السودان مقابل التزام جوبا بالمساهمة في سد العجز المالي المتوقع للسودان.

”بالنسبة للجنوب ومنطقه التفاوضي، فإن أبيي هي مقابل كل شيء“ 
عباس محمد ابراهيم

واضاف ابراهيم: "بالنسبة للجنوب ومنطقه التفاوضي، فإن أبيي هي مقابل كل شيء"، مبيناً أنها لا تزال على رأس القضايا لدى مفاوضي الجنوب.

وأشار ابراهيم لطرح جوبا خلال المفاوضات الاخيرة موافقتها على الاتفاق الضمني الخاص بالنفط شريطة موافقة جارها الشمالي على عدة شروط وهي إعادة تبعية ابيي للجنوب، اقامة المنطقة العازلة بين البلدين، احالة النزاع حول المناطق الحدودية العشرة المتنازع عليها للتحكيم الدولي واقامة حكم مشترك بين الدولتين على طول الشريط بينهما، مبيناً أن الخرطوم رفضت تلك الشروط.

مصدر الخريطة هنا

قد يطرح تساؤول يتعلق بالاسانيد والحجج التي تستند عليها جوبا لتأكيد تبعية تلك المناطق العشرة المختلف عليها لحدود دولتها.

ويوضح الصحفي عباس محمد ابراهيم المرجعية التي تتمثل في خرائط حكومة السودان المعتمدة بمصلحة الاراضي السودانية للعام 1955 التي فصلت حدود المديريات الشمالية والجنوبية والتي تم على أساسها تحديد حدود البلدين عند نيل السودان لاستقلاله في الاول من يناير 1956، مضيفاً أن تلك الخريطة تحصلت عليها جوبا من بريطانيا حسبما ذكر رئيس وفد التفاوض لدولة الجنوب باقان اموم والقيادي بالحركة الشعبية الحاكمة بجنوب السودان د. لوكا بيونق.

ادخال المناطق الستة

لكن ما هي الدوافع والاسباب التي جعلت جوبا تثير قضية المناطق الستة الجديدة خلال الجولة الأخيرة الشيء الذي افضى لعرقلتها؟

هنا يشير ابراهيم لنقطة أساسية والمتمثلة في وجود اتفاق سابق بين الطرفين والوسطاء – قبل اندلاع المواجهات الاخيرة بينهما في هجليج – على تقديم كل طرف لرؤيته حول المناطق المختلف حولها واضاف: "وهذا هو المدخل الذي استغلته جوبا وقدمت تلك المناطق الستة باعتبارها مناطق متنازع عليها".

وذكر ان مفاوضيين تابعين للجنوب اخبروه أن ما تردده الحكومة السودانية عن توقيع الطرفين على اتفاق يحصر الخلاف في المناطق الاربعة فقط "أمر غير دقيق".

وفسروا هذا الامر بقولهم أن النقاش حول الحدود بين الطرفين اسفر عن اتفاق رسمي بين الدولتين على حوالي 23% من القضايا أما بقية القضايا فلم يحدث حولها أي اتفاق رسمي بينهما، وكل ما تم انجازه حيالها كان مجرد جوانب إدارية باللجان، وهو ما دفعهم لاثارة النقاش حول تلك المناطق الستة.

محاولة عرقلة

منذ تقديم جوبا للخريطة التي ضمت المناطق الستة فإن عدد من المراقبين اعتبروها عمدت لهذا الأمر للحيلولة دون تقدم مفاوضات الترتيبات الامنية لعدم رغبتها في حسم ملف الترتيبات الامنية باكراً دون تأكدها من حسم بقية القضايا العالقة.

”الاتفاق مع العسكريين السودانيين لا ضمان له“  
باقان اموم

ويبدو ابراهيم متفقاً مع جانب من هذا الرأي ويستند على ما ذكره رئيس مفاوضي الجنوب باقان اموم والذي اشار في مؤتمر صحفي عقده ابان الجولة الاخيرة بأن "الاتفاق مع العسكريين السودانيين لا ضمان له".

ولم يستبعد ابراهيم مراهنة الجنوب على اصدار مجلس الامن بناء على ما ورد في قراره رقم 2046 الصادر في مايو الماضي بعد انقضاء ثلاثة اشهر من المفاوضات لقرارات حيال القضايا الخلافية بين البلدين.

واشار إلى أن القناعة العامة وسط مفاوضي جوبا منذ بداية الجولة الاخيرة بعدم امكانية احراز اي تقدم في ملفات القضايا العالقة بين البلدين، واضاف:"بعض مفاوضوا الجنوب ذكروا في تصرحيات صحفية عقب انتهاء الجولة السابقة أن استمرار الخرطوم في عرقلة المفاوضات سيؤدي لاحالة الملف لمجلس الامن وعليهم – أي الحكومة السودانية – ألا يتوقعوا صدور قرارات من مجلس الامن حيال القضايا الخلافية العالقة في مصلحتهم".

جس نبض

إلا أن الصحفي والمحلل السوداني عمار عوض كان لديه وجهة نظر مختلف حينما اعتبر أن الخريطة التي قدمها وفد الجنوب لم تهدف لعرقلة المفاوضات بقدر ما هو تمسك بالحقوق استناداً على خريطة السودان المعتمدة من قبل مصلحة الاراضي السودانية في العام 1955، مشيراً إلى أن تلك الخريطة تم اعتمدها من قبل مجلس وزراء حكومة الجنوب وتم ايداعها الامم المتحدة قبل بداية الجولة الاخيرة وسلمت لوفد الوساطة الافريقية.

عمار عوض. © عمار عوض
ويشير عوض هنا لتمسك الخرطوم بالخرائط التي اعدتها كل من لجنة ترسيم الحدود والبعثات الدولية التي استعملت في السودان كمرجعية، في ما تعتبرها جوبا لم تعد بغرض ترسيم الحدود بين البلدين وانما لادارة العمل عندما كان السودان موحداً، ويستندون على أن الخرائط بين الدول وترسيم الحدود يتم ترسيمها والاتفاق عليها بين الدول وتعتمد من قبل الامم المتحدة وليس العكس.

وبدا عوض مستغرباً من موقف الحكومة السودانية التي رفضت هذا الامر واحتجت على ضم الجنوب لتلك المناطق وفي ذات الوقت عجزت عن الاستجابة لمطالبات وفد الجنوب والوساطة بتقديم الخرائط التي تثبت تبعية تلك المناطق المتنازع عليها لها.

ولم يستبعد عوض أن تكون الجولة الاخيرة بين البلدين مجرد "جس نبض" للطرف الاخر لمعرفة السقوفات الخاصة به وكشف جزء من وثائقه ورؤاه حول الحدود والمنطقة العازلة.

عقب انفضاض الجولة الأخيرة للمفاوضات بين الخرطوم وجوبا فإن التساؤول الرئيسي الذي بات مطروحاً على المستويين الاقليمي والدولي هو "إلى اين تمضي الجولة الثانية التي بدأت قبل أيام قليلة؟".

يلخص الصحفي عباس محمد ابراهيم توقعاته للجولة الحالية بأنها ستشهد "تعنتاً كبيراً من الطرفين"، متوقعاً أن يترتب على هذا الأمر تعرضهما لضغوط أكبر من قبل الاطراف الاقليمية والدولية قد تفضي لتوصلهما لاتفاق هش يجانبها الاحتكاك والصدام المباشر بينهما وبالتالي يجنب اقتصادهما المتداعي من الانهيار على رأسيهما.

ولكنه اشار لامكانية توظيف الصين لنفوذها على البلدين عموماً وعلى الخرطوم على وجه الخصوص عن طريق "الضغوط الصامتة" في تحقيق تفاهمات، ولكنه استدرك قائلاً: "أي تقدم او اختراق للمفاوضات سيكون لديه انعكاسات على بنية النظام السوداني باعتبار أن هناك اطراف داخلية لا تزال رافضة او متوجسة من أي تقارب أو تفاهم مع الجنوب. مفاوضوا الحكومة الرئيسيين لديهم خبرة كافية ويعرفون الطرق التي يمكن ان تقودهم لتوقيع اتفاقات مع نظرائهم الجنوبيين ولكنهم مشلولين بسبب الضغوط الداخلية والانتقادات العنيفة التي توجه لهم والحرب النفسية التي تشن عليهم من داخل صفوف الحكومة نفسها وجهات محسوبة عليها".

تسارع الخطوات

وأقر الصحفي والمحلل السوداني عمار عوض بالصعوبة البالغة بالتكهن بأمكانية احراز تقدم في الجولة الجارية واضاف: "من الواضح أن كل من البلدين يسعى للايجاء للمجتمع الدولي بان الطرف الاخر هو المعرقل لعملية التفاوض وبالتالي فهو يستحق معقابته بفرض عقوبات عليه من قبل مجلس الامن"، مبيناً أن كل طرف يقوم بالبحث عما يورط نظيره مع المجتمع الدولي.

لكن رغم ذلك فإن عوض يتوقع أن الخطوات ستسارع بغية التوصل لحل توفيقي سيتم فرضه على الطرفين من قبل الوسطاء مع اقتراب نهاية السقف الزمني الذي حدده قرار مجلس الامن لانهاء عملية التفاوض حول القضايا العالقة والمحدد في ثلاثة اشهر.

وقد راجح عوض ان يوضح اجتماع قمة الاتحاد الافريقي الجاري ملامح تحرك مجلس الامن واضاف: "في تقديري حيال الازمة فإن مجلس الامن سيجعل القرار بيد الاتحاد الافريقي ولن يلجأ لفرض قرارات منفردة بمعزل عن الاتحاد الإفريقي".